الخميس، 7 أكتوبر 2010

لو قرعنا جدار الخزان سيطلقون علينا الرصاص!





الكاتب ثائر جبر

يخرج من بيته مسرعا والنعاس يزاور عينيه شرقا و الشمس - تزاورهما – غربا, لا يملك من وقته شيئا, تأخذه الطريق إلى ذلك السلك الشائك, سيارات صفراء "تنعف" عمالا وتمضي مسرعة تاركة ورائها الجحيم, يتأبط كيسا أسود, قد أودع أولاده عين الله ومضي يصك رغيفا.

لا أحد يأبه لأمره, أو لأمر أولاده, وهو لا يطلب شيئا كهذا, ولم يخرج يوما في تظاهرة ضد الغلاء ولا ضد أي شيء, لم يسأل إذا كان اسمه على أجندة المفاوضات أم لا, لا يملك ذهنا لمتابعة الأخبار ولا مساحة من الوقت ليقرأ الإدانات اليومية, لا يعرف من أين بدأ الشقاق ليعرف إلى أين وصلت جهود المصالحة, جل ما دأب على التفكير به منذ اشتد عوده هو "كيف سيتمكن من سد عوز عائلته" .

يذكر جيدا حكايا جده عندما كان يعرّج على القدس ليزور بعض الأصدقاء في طريقه إلى عكا, ليشتري فستقا وتبغا ليطحن ساعات الليل الرطبة برفقة صهره العكاوي.

لم يعِ يوما كيف كان جده يذرع تلك الأرض بـ "قمبازه" وعصاه ولفافته, وتلك البنايات التي تشبه اليوم رومانيا, بشبابيكها التي تطل منها الفتيات ليغسلن بالشمس أجسادهن الذابلة من النوم الطويل كل صباح, لم يدرك تماما عما كان يتحدث جده عندما يصف له يافا ومقاهيها وبحرها, وحيفا برونقها وتوابلها وفتياتها.

تنزاح كل ألأفكار من رأسه, بجده وبصباه و صبواته, ويبدأ بالتفكير "كيف سنعبر هذا السياج إلى ذكريات جدي لنعمل هناك", يتسلق الأسلاك بجسده المنهك من شدة النعاس, ثم يمضي ومجموعة من أقاربه, - بضع خطوات -, ديبجات من الحديث يمسك كل منهم بطرف لا يقطعها سوى سيارة جيب إسرائيلية "تجعر" من بعيد, كالوحش الذي أدرك فريسته, تدنو السيارة أكثر فأكثر, يترجل من فيها, يحاول الجميع الهرب, لم يسعفه جسده الثقيل ليجاري رفاقه, أطرق ثانية لنفسه –وهو يهرول -, ماذا سيحدث, سيطلبون هويتي كالعادة سيدققون فيها وسيتركونني وشأني.... على أسوأ الأحوال لن أعمل هذا النهار, فهم يعرفون جيدا أني عامل وكيسي الأسود نصف هويتي, وملمس يدي نصفها الآخر, وقد لا يطلبون هويتي أصلا!!!, لم يلبث أن يقطع حواره مع نفسه حتى لامست جسده فوهة البندقية, ما استدرك الأمر إلا والرصاصات تخترق جسده ليسلم الروح بسبعة وثلاثين ربيعا.

في اليوم التالي - تماما- عاد ليعيد الكرة, له من العمر اليوم خمسة وخمسون عاما, يكاد الرأس يشتعل شيبا, واليد ضاقت بأناملها تعبا, لكن – قال لنفسه - "يجب أن أعبر إلى ذكريات جدي لكي أعمل هناك", اعتلى السلك الشائك بعوده النحيل, ثم رماه خلفه ومضى ومجموعة من أقاربه, بالكاد تحمله قدماه, ولكن الأفق المقابل يحمل ثقله وجحيما رابضا, فجأةً رأى نفسه في حرب, جنود من كل حدب وصوب, قنابل ورصاص يتبعه صراخ من كل الجهات, دخان هنا وهناك, جندي من دون سلاح – رأى نفسه – في أرض الحرب, إلى أين؟ "سأل نفسه" بالأمس تعبت حتى أدركوني وانتظرت سؤالهم لكي أجيب فأودعوا كل الرصاصات في جسدي, فماذا أفعل اليوم؟...... , إلى هناك, يجب أن أركض إلى هناك, ولكن ..(استدرك نفسه ) "لي من العمر ما يفرض احترامي, .. ماذا لو لم يأبهوا؟, سأتابع الركض, ....يا الله....لا أقوى على عذابات الأرض...لا أعرف هذا الدخان, لا أقوى على الشهيق... يا الله .......",

يزداد الدخان الأبيض في المكان, تنزاح منه الرائحة الكريهة, ويبدوا كالضباب البارد, يسود صمت فجائي في أرض الحرب,لا بنادق ولا رصاص ولا قنابل, وشيئا فشيئا بدأت أصوات العصافير كأنه الصباح, نظر حوله قائلا لنفسه, ما هذا؟ أين أنا؟, أطرق السمع والنظر في ذهولٍ حتى بدا له وكأنه رجل في السبعين من عمره يخرج من الضباب الأبيض مقبلا إليه بعصا وبين أصابعه لفافة, فرك عينيه بيديه وأمعن "يا الله ....جدي", تبسم الرجل ثم قال "لا تخف يا بني", وربت على كتفه وأردف "سنمضي اليوم إلى عكا نتسامر وصهرنا العكاوي وفي الصباح سنعود نزور بعض الأصدقاء في القدس".

" إهداء إلى أرواح شهداء الكدح والأرض عز الدين صالح عبد الكريم الكوازبة و شحدة محمد حسين كرجة رحمهم الله."


عز الدين صالح عبد الكريم الكوازبة

الشهيد شحدة محمد حسين كرجة